كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
وَهُوَ سبحانه وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعُلُوِّ. وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْعَظِيمُ وَالْعَلِيمُ وَالْقَدِيرُ وَالْعَزِيزُ وَالْحَلِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيوم وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ بِأَضْدَادِ هَذِهِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّ الْحَيَاةِ والقيومية وَالْعِلْمِ وَالْقدرةِ مِثْلِ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَاللُّغُوبِ. وَلَا بِضِدِّ الْعِزَّةِ وَهُوَ الذُّلُّ وَلَا بِضِدِّ الْحِكْمَةِ وَهُوَ السَّفَهُ. فَكَذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعُلُوِّ وَهُوَ السُّفُولُ وَلَا بِضِدِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْحَقِيرُ. بَلْ هُوَ سبحانه مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ الْمُنَافِيَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ. فَثُبُوتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ يَنْفِي اتِّصَافَهُ بِأَضْدَادِهَا وَهِيَ النَّقَائِصُ. وَهُوَ سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِيمَا يُوصَفُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقْصِ الْمُضَادِّ لِكَمَالِهِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَمَعَانِي التَّنْزِيهِ تَرْجِعُ إلَى هَذينِ الْأَصْلَيْنِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن بِقولهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد اللَّهُ الصَّمَدُ}. فَاسْمُهُ (الصَّمَدُ) يَجْمَعُ مَعَانِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَهُوَ كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ لِصِفَاتِ السُّؤْدُدِ الْعَلِيمُ الَّذي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْحَكِيمُ الَّذي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُيِّنَ. وَقولهُ (الْأحد) يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد}. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تعالى بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ فلابد أَنْ يَتَضَمَّنَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا. فَالْكَمَالُ هُوَ فِي الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَالنَّفْيُ مَقْصُودُهُ نَفْيُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ. فَإِذَا نُفِيَ النَّقِيضُ الَّذي هُوَ الْعَدَمُ وَالسَّلْبُ لَزِمَ ثُبُوتُ النَّقِيضِ الْآخَرِ الَّذي هُوَ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ. وَبَيَّنَّا هَذَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي القرآن كَقولهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية. وَقولهُ: {مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ. وَقولهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالتَّعْلِيمِ دُونَ مَا سِوَاهـ. والوحدانية تَقْتَضِي الْكَمَالَ وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي النَّقْصَ. وَكَذَلِكَ قولهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقال ذَرَّةٍ}. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ عُلُوَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ اللَّازِمَةِ لَهُ. فَلَا يَجُوزُ اتِّصَافُهُ بِضِدِّ الْعُلُوِّ أَلْبَتَّةَ. وَلِهَذَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحديث الصَّحِيحِ: «أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ» وَلَمْ يَقُلْ (تَحْتَك). وَقَدْ تَكَلَّمْنَا على هَذَا الْحديث فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُخَالِفُونَ لِلْكتاب وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَا يَجْعَلُونَهُ مُتَّصِفًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ. بَلْ إمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَنْفُوا عَنْهُ الْعُلُوَّ وَالسُّفُولَ. وَهُمْ نَوْعَانِ. فالْجَهْمِيَّة الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَا يَصِفُونَهُ بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَالْأَمْكِنَةُ مِنْهَا عَالٍ وَسَافِلٌ. فَهُوَ فِي الْعَالِي عَالٍ وَفِي السَّافِلِ سَافِلٌ. بَلْ إذَا قالوا إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَجَعَلُوا الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا مَحَالّ لَهُ- ظُرُوفًا وَأَوْعِيَةً جَعَلُوهَا فِي الْحَقِيقَةِ أَعلى مِنْهُ. فَإِنَّ الْمَحَلَّ يَحْوِي الْحَالَّ وَالظَّرْفَ وَالْوِعَاءَ يَحْوِي الْمَظْرُوفَ الَّذي فِيهِ وَالْحَاوِيَ فَوْقَ المحوى. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ إذَا قالوا (إنَّهُ فَوْقَ العرش وَإِنَّهُ فِي السماء فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ) لَا يَقولونَ إنَّ هُنَاكَ شَيْئًا يَحْوِيهِ أَوْ يَحْصُرُهُ أَوْ يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ أَوْ ظَرْفًا وَوِعَاءً سبحانه وَتعالى عَنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ. وَهُوَ عَالٍ على كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْحَامِلُ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ العرش بِقُوَّتِهِ وَقدرتِهِ. وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ العرش وَعَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ. وَمَا فِي الْكتاب وَالسُّنَّةِ مِنْ قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السماء} وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ يَفْهَمُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ {السماء} هِيَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ الْعَالِي العرش فَمَا دُونَهُ. فَيَقولونَ: قوله: {فِي السماء} بِمَعْنَى على السماء. كَمَا قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ على جُذُوعِ النَّخْلِ. وَكَمَا قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ على الْأَرْضِ. وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا بَلْ {السماء} اسْمُ جِنْسٍ لِلْعَالِي لَا يَخُصُّ شَيْئًا. فَقوله: {فِي السماء} أَيْ فِي الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الأعلى فَلَهُ أَعلى الْعُلُوِّ وَهُوَ مَا فَوْقَ العرش وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ الْعَلِيُّ الأعلى سبحانه وَتعالى. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ هُوَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ السُّفْلِيَّةِ الْقَذِرَةِ الْخَبِيثَةِ كَمَا هُوَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْعالية. وَغُلَاةُ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ الَّذينَ يَقولونَ (الْوُجُودُ وَاحد) كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ صَاحِبِ (فُصُوصِ الْحِكَمِ) و(الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ) يَقولونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ. وَلِهَذَا قال ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي (فُصُوصِ الْحِكَمِ): وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى (الْعَلِيُّ). على مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ؟ وَعَنْ مَاذا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ؟. فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عين الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى (مُحْدَثَاتٌ) هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. إلَى أَنْ قال: فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذي يَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْمُسَمَّى اللَّهُ. فَهُوَ عِنْدُهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ ذَمٍّ كَمَا هُوَ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ مَدْحٍ. وَهَؤُلَاءِ يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ كَالسَّمَوَاتِ. وَمَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا لَا يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ أَوْ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ. وَقَدْ قال فِرْعَوْنُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى}.
قال ابْنُ عَرَبِيٍّ:
وَلما كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنصب التَّحَكُّمِ وَالْخَلِيفَةِ بِالسَّيْفِ جَازَ فِي الْعُرْفِ الناموسي أَنْ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى}. أَيْ وَإِنْ كَانَ أَنَّ الْكُلَّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الأعلى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ. وَلما عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَهُ فِيمَا قال لَمْ يُنْكِرُوهُ بَلْ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقالوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدنيا} فَالدَّوْلَةُ لَك. فَصَحَّ قول فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى}. فَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يُصَحِّحُونَ قول فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى} وَيَنْكَرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِيًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الأعلى وَيَقولونَ: على مَنْ يَكُونُ أَعلى أَوْ عَمَّا ذَا يَكُونُ أَعلى؟. وَهَكَذَا سَائِرُ الْجَهْمِيَّة يَصِفُونَ بِالْعُلُوِّ على وَجْه الْمَدْحِ مَا هُوَ عَالٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسماء وَالْجَنَّةِ وَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَالِيَ أَفْضَلُ مِنْ السَّافِلِ وَهُمْ لَا يَصِفُونَ رَبَّهُمْ بِأَنَّهُ الأعلى وَلَا الْعَلِيُّ بَلْ يَجْعَلُونَهُ فِي السَّافِلَاتِ كَمَا هُوَ فِي الْعَالِيَاتِ. وَالْجَهْمِيَّة الَّذينَ يَقولونَ لَيْسَ هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ هُمْ أَقْرَبُ إلَى التَّعْطِيلِ وَالْعَدَمِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَخْلُوقُ لَا الْخَالِقُ؛ وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ فَلَا يُثْبِتُونَ وُجُودًا أَلْبَتَّةَ لَكِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَقولونَ إنَّهُمْ يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْخَالِقِ. وَإِذَا قالوا: نَحْنُ نَقول: هُوَ عَالٍ بِالْقدرةِ أَوْ بِالْقدر. قِيلَ: هَذَا فَرْعُ ثُبُوتِ ذَاتِهِ وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا مَوْجُودًا يُعْرَفُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا أَوْ عَظِيمَ الْقدر. وَإِذَا قالوا: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ خلق الْأَمْكِنَةِ وَالْمَخْلُوقَاتِ مَوْجُودًا وَهُوَ الْآنَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَوْقَ شَيْءٍ وَلَا عَالِيا علي شَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُوَ الْآنَ قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ وَيَظْهَرُ فَسَادُهُ بِالْمُعَارَضَةِ ثُمَّ بِالْحَلِّ وَبَيَان فَسَادِهِ. أَمَّا (الْأَوَّلُ) فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْآنَ عَالِيًا بِالْقدرةِ وَلَا بِالْقدر كَمَا كَانَ فِي الْأَزَلِ. فَإِنَّهُ إذَا قدر وُجُودُهُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَوْجُودٌ يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا قَاهِرًا لَهُ وَلَا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَلَا مَوْجُودًا يَكُونُ هُوَ أَعْظَمَ قدرا مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ عُلُوٌّ عليها كَمَا زَعَمُوا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا لَيْسَ قَادِرًا لِشَيْءِ وَلَا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَلَا قَاهِرًا لِعِبَادِهِ وَلَا قدرهُ أَعْظَمُ مِنْ قدرهَا. وَإِذَا كَانُوا يَقولونَ هُمْ وَجَمِيعُ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ يُوصَفُ بِأُمُورِ إضَافِيَّةٍ لَا يُوصَفُ بِهَا إذَا قدر مَوْجُودًا وَحْدَهُ عَلِمَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَطَأٌ مِنْهُمْ. وقد اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ على جَوَازِ تُجَدِّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مِثْلِ الْمَعِيَّةِ وإنما النِّزَاعُ فِي تَجَدُّدِ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ النِّسَبَ وَالْإِضَافَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِأُمُورِ ثُبُوتِيَّةٍ وَأَنَّ وُجُودَهَا بِدُونِ الْأُمُورِ الثُّبُوتِيَّةِ مُمْتَنِعٌ. وَالْإِنْسَانُ إذَا كَانَ جَالِسًا فَتَحَوَّلَ الْمُتَحَوِّلُ عَنْ يَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَنْ شِمَالِهِ قِيلَ (إنَّهُ عَنْ شِمَالِهِ). فَقَدْ تَجَدَّدَ مِنْ هَذَا فِعْلٌ بِهِ تَغَيَّرَتْ النِّسْبَةُ وَالْإِضَافَةُ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ تَحْتَ السَّطْحِ فَصَارَ فَوْقَهُ فَإِنَّ النِّسْبَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ تَجَدَّدَ لما تَجَدَّدَ فِعْلُ هَذَا. وَإِذَا قِيلَ (نَفْسُ السَّقْفِ لَمْ يَتَغَيَّرْ) قِيلَ قَدْ يُمْنَعُ هَذَا وَيُقال: لَيْسَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَحُكْمِهِ إذَا كَانَ فَوْقَهُ شَيْءٌ. وَإِذَا قِيلَ عَنْ الْجَالِسِ (إنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ) قِيلَ: قَدْ يُمْنَعُ هَذَا وَيُقال: لَيْسَ حُكْمُهُ إذَا كَانَ الشَّخْصُ عَنْ يَسَارِهِ كَحُكْمِهِ إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يَحْجُبُ هَذَا الْجَانِبَ وَيُوجِبُ مِنْ الْتِفَاتِ الشَّخْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَخٌ أَوْ ابْنُ أَخ بِإِيلَادِ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ قَدْ وُجِدَ هُنَا أُمُورٌ ثُبُوتِيَّةٌ. وَهَذَا الشَّخْصُ يَصِيرُ فِيهِ مِنْ الْعطف وَالْحُنُوِّ على هَذَا الْوَلَدِ الْمُتَجَدِّدِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهِيَ الرَّحِمُ وَالقرابة.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقال: الْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ وَالرُّبُوبِيَّةُ والخالقية وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مَوْجُودًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِيًا عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا يَقولونَ هُمْ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ أَوْ بِالْقدر أَوْ لَا يَكُونَ خِلَافُ مَا إذَا قدر وَحْدَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقولونَ إنَّهُ حِينَئِذٍ قَاهِرٌ أَوْ قَادِرٌ أَوْ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُقال إنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ قالوا: (إنَّهُ قَادِرٌ وَقَاهِرٌ) كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْغَيْرِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّ الْقدر قِيلَ: وَكَذَلِكَ عُلُوُّ ذَاتِهِ مَا زَالَ عَالِيًا بِذَاتِهِ لَكِنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْغَيْرِ. وَالْإِلْزَامَاتُ مُفْحِمَةٌ لَهُمْ. وَحَقِيقَةُ قولهِمْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا. يَقولونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا فَصَارَ مُمْكِنًا. فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الَّذينَ يَصِفُونَهُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ فَاَلَّذينَ يَقولونَ: هُوَ فَوْقَ العرش وَهُوَ أيضًا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَاَلَّذينَ يَقولونَ: إذَا نَزَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَإِنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ العرش أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْبَرُ مِنْهُ وَيَقولونَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ أَصْغَرَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَقول شُيُوخُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ أَسْفَلَ مِنْ الْمَخْلُوقِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ وَلَا هُوَ على قولهِمْ الكبير المتعال وَلَا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَقَدْ بَسَطَ الرَّدَّ على هَؤُلَاءِ فِي (مَسْأَلَةِ النُّزُولِ) لما ذَكَرَ قول أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِثْلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا: (إنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ العرش) ذَكَرَ قول مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْحديث وَالسُّنَّةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ قولهِمْ شَرْعًا وَعَقْلًا. وَهَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الَّذينَ يَنْفُونَ النُّزُولَ. وَإِذَا قِيلَ: حديث النُّزُولِ وَنَحْوِهِ ظَاهِرُهُ لَيْسَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِالظَّاهِرِ مَا يَظْهَرُ لِهَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى أَسْفَلَ فَيَصِيرُ تَحْتَ العرش كَمَا يَنْزِلُ الْإِنْسَانُ مِنْ سَطْحِ دَارِهِ إلَى أَسْفَلُ. وَعلى قول هَؤُلَاءِ وَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ الْعَلِيُّ وَلَا الأعلى بَلْ يَكُونُ تَارَةً أَعلى وَتَارَةً أَسْفَلَ- تعالى اللَّه عَمَّا يَقول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ نُزُولِهِ يوم الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَمِنْ نُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ لما خَلَقَهَا وَمِنْ نُزُولِهِ لِتَكْلِيمِ مُوسَى وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ بَابٍ وَاحد كَقولهِ تعالى: {هَلْ ينظرون إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقولهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقولهِ: {هَلْ ينظرون إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} والْنُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةُ يَنْفُونَ الْمَجِيءَ وَالْإِتْيَانَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَقولونَ: مَا ثَمَّ إلَّا مَا يَحْدُثُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُلُولِيَّةُ يَقولونَ: إنَّهُ يَأْتِي وَيَجِيءُ بِحَيْثُ يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَيُشْغَلُ آخَرُ فَيَخْلُو مِنْهُ مَا فَوْقَ العرش وَيَصِيرُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ. فَإِذَا أَتَى وَجَاءَ لَمْ يَصِرْ على قولهِمْ الْعَلِيُّ الأعلى وَلَا كَانَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. لاسيما إذَا قالوا: إنَّهُ يَحْوِيهِ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ سبحانه وَتعالى عَمَّا يَقول هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عُلُوًّا عَظِيمًا. وَكَذَلِكَ قولهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السماء} إنْ كَانَ قَدْ قال أحد: إنَّهُ فِي جَوْفِ السماء فَهُوَ شَرٌّ قولا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَكِنَّ هَذَا مَا عَلِمْت بِهِ قَائِلًا مُعينا مَنْسُوبًا إلَى عِلْمٍ حَتَّى أَحْكِيَهُ قولا. وَمَنْ قال: (إنَّهُ فِي السماء) فَمُرَادُهُ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ فِي جَوْفِ الْأَفْلَاكِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ.
الظَّاهِرُ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ على خِلَافِ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الَّذي يَظْهَرُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذينَ يُطْلِقُونَ هَذَا الْقول وَيَسْمَعُونَهُ أَوْ هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ هُوَ مِمَّا لَا يَسْلَمُ لَهُمْ كَمَا قَدْ يُبْسَطُ فِي مَوَاضِعَ. وَقَدْ قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلَّا اللَّهُ} فَاسْتَثْنَى نَفْسَهُ وَالْعَالِمُ {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقال هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَرْفُوعٌ وَلَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا لَكَانَ مَنْصُوبًا. وَالْمَرْفُوعُ على الْبَدَلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَرَّغِ كَأَنَّهُ قال (لَا يَعْلَمُ الغيب إلَّا اللَّهُ). فَيَلْزَمُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ {السماء} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سَمَا وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّمَوَاتُ وَالْكُرْسِيُّ وَالعرش وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ. لِأَنَّ هَذَا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: (السَّمَوَاتِ السَّبْعَ) بَلْ عَمَّ بِلَفْظِ (السَّمَوَاتِ). وَإِذَا كَانَ لَفْظُ {السماء} قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّحَابُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُلْكُ وَيُرَادُ بِهِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ مُطْلَقًا فـ (السَّمَوَاتُ) جَمْعُ (سَمَاءٍ) وَكُلُّ مَنْ فِيمَا يُسَمَّى (سَمَاءً) وَكُلُّ مَنْ فِيمَا يُسَمَّى (أَرْضًا) لَا يَعْلَمُ الغيب إلَّا اللَّهُ.
وَهُوَ سبحانه قال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ} وَلَمْ يَقُلْ (ما) فَإِنَّهُ لما اجْتَمَعَ مَا يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ غَلَبَ مَا يَعْقِلُ وَعَبَّرَ عَنْهُ بـ: (من) لِتَكُونَ أَبْلَغَ فَإِنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَا يَعْلَمُ أحد مِنْهُمْ الغيب إلَّا اللَّهَ. وَهَذَا هُوَ الغيب الْمُطْلَقُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذي قال فِيهِ {فَلَا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحدا}.
وَالغيب الْمُقَيَّدُ مَا عَلِمَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْجِنِّ أَوْ الْإِنْسِ وَشَهِدُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ غَيْبٌ عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ غَيْبًا عَمَّنْ شَهِدَهُ. وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ يَغِيبُ عَنْ هَذَا مَا يَشْهَدُهُ هَذَا فَيَكُونُ غَيْبًا مُقَيَّدًا أَيْ غَيْبًا عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ لَا عَمَّنْ شَهِدَهُ لَيْسَ غَيْبًا مُطْلَقًا غَابَ عَنْ الْمَخْلُوقِينَ قَاطِبَةً. وَقولهُ: {عَالِمُ الغيب وَالشَّهَادَةِ} أَيْ عَالِمُ مَا غَابَ عَنْ الْعِبَادِ مُطْلَقًا وَمُعينا وَمَا شَهِدُوهُ فَهُوَ سبحانه يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
والْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَنَدُهُمْ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا الْكتاب وَلَا السُّنَّةَ وَلَا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَلَا مُسْتَنَدُهُمْ فِطْرَةَ الْعَقْلِ وَضَرُورَتَهُ وَلَكِنْ يَقولونَ: مَعَنَا النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُثْبِتُونَ لِلْعُلُوِّ فَيَقولونَ: إنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكتاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ الْعِبَادَ عليها وَضَرُورَةُ الْعَقْلِ وَمَعَ نَظَرِ الْعَقْلِ وَاسْتِدْلَالِهِ.
لَكِنَّ الَّذينَ يَقولونَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَبْقَى فَوْقَ العرش وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقولونَ إنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ السَّمْعُ وَهُوَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ القرآن أَوْ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ أَوْ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَهُمْ أَخْطَئُوا مِنْ حَيْثُ نَظَرُوا اقْتَصَرُوا على فَهْمِهِ مِنْ نَصٍّ وَاحد كَفَهْمِهِمْ مِنْ حديث النُّزُولِ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِي الْكتاب وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَصِفُهُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ أَعلى مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ.